داء الأمم
في الجزء الأول من هذا المقال، سأحاول بتوفيق الله فهم معاني الألفاظ النبوية في بعض الأحاديث الشريفة المتعلقة بالموضوع. ثم في الجزء الثاني، سأسعى لفهم داء الأمم وتشخيص النبي محمد لهذا الداء، وكذلك التعرف على العلاج النبوي الشافي.
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “سيصيب أمتي داء الأمم” فقالوا: يا رسول الله، وما داء الأمم؟ قال: “الأشر والبطر، والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي” .
وفي رواية: “سيصيب أمتى داء الأمم الأشر والبطر، والتكاثر والتشاحن في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي”.
وفي رواية ثالثة “إنه سيصيب أمتي داء الأمم »، قالوا: يا نبي الله، ما داء الأمم؟ قال: « الأشر والبطر، والتكاثر والتنافس في الدنيا، والتنعم والتحاسد، حتى البغي، ثم يكون الهرج”.
وفي رابعة يقول صلى الله عليه وسلم: “سيصيب أمتي داء الأمم” فقالوا: يا رسول الله، وما داء الأمم؟ قال: “الأشر والبطر، والتدابر والتنافس في الدنيا، والتباغض والبخل حتى يكون البغي، ثم يكون الهرج”.
وعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لاَ حَالِقَةَ الشَّعْرِ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ” .
سيصيب أمتي داء الأمم
وفي رواية الزبير رضي الله عنه “دب إليكم” أي سار إليكم “داء الأمم قبلكم” أي عادة الأمم الماضية.
وفي هذا الحديث كما قال ابن الأثير: نقل الداء من الأجسام إلى المعاني ومن أمر الدنيا إلى الآخرة. وقال الطيبي: “الدب يستعمل في الأجسام، فاستعير للسراية على سبيل التبعية. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم الحالقة، فإنها تستعمل في حلق الشعر، فاستعملت فيما يستأصل الدين”) .
وقد تكرر هذا الداء في الأمم علامة على سنة الله فيهم، كلما وقعوا في الأسباب الجالبة للداء.
الأشر والبطر
الأشر: كفر النعمة. والبطر: الطغيان عند النعمة وشدة المرح والفرح وطول الغنى.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: البطر دَهَش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها) .
وهذا ما حصل لقارون الذي قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي (سورة القصص، الآية 78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (سورة القصص، الآية 79). وفي صورة مشابهة لصاحب الجنتين الذي قال لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (سورة الكهف). فالإنسان بطبعه يطغى إذا استغنى ويحدث له فرح وإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (سورة القصص، الآية 76).
هذا الفرح المذموم هو الفرح بالدنيا، أما الفرح بما عند الله وبما يرضاه الله من الدنيا فهو محمود مأمور به بشرط أن لا يدفع صاحبه للتكبر على خلق والاستعلاء عليهم قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (سورة يونس، الآية 58) الفرق بين المؤمن الذي يفرح بفضل الله وقارون وأمثاله هو أن الأول ينسب الفضل لله ولرحمته، ويستعمل نعم الله في طاعة مولاه. أما الثاني فينسب الفضل إلى علمه وذاته، ويستعمل نعم الله في معصيته. وشتان بين الفريقين.
التكاثر والتناجش
التناجش قد يكون في البيع، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما لنفع البائع لزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه). قال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن). قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن فاعله عاص لله تعالى إذا كان بالنهي عالما).
وأصل النجش في اللغة إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة. وحينئذ يكون المعنى في الحديث الشريف الاحتيال والمكر والمخادعة لإيصال الأذى إلى المسلم.
الدافع على التناجش هو التكاثر من الأموال، ومن الدنيا عامة، وكان المستكبرون في الجاهلية يتباهون بكثرة المال والولد يقولون: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (سورة سبأ، الآية 35). وقال تعالى أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (سورة التكاثر، الآية 1) فجشع الإنسان على الأموال والتكاثر فيها لا يقف دونه إلا القبر فإذا كان للإنسان نهر من ذهب ود أن يكون له نهر ثان، ولا يسد فاه إلا التراب.
هذا التكاثر سماه الحديث النبوي في رواياته التنافس والتنعم، فلا يزال الإنسان يبحث عن ما كان عليه في رحم أمه من دعة ونعيم لا تكدره البلايا والآفات، فيصطنع من أصناف الملذات وأنواع الملاهي وأسباب الراحة ما يبلغ به لغايته وهدفه، لكنه لا يعثر إلا على مزيد من الابتلاءات والأمراض الأخرى الناتجة عن التنعم والإسراف وحب الاستهلاك كل ذلك لأجل دنيا لا يصيب منها إلا الكبد لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (سورة البلد، الآية 4).
وليس جمع المال لبذله في سبيل الله منهيا عنه، ولا التوالد للإكثار جند الله ليباهي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمم، ولا التسابق إلى الخيرات، ففيه فليتنافس المتنافسون، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (سورة الحديد، الآية 21).
وإنما وقع النهي عن فعل ذلك من أجل الدنيا فقط، بانقطاع عن الآخرة.
التباغض والتحاسد
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التباغض بينهم قائلا: “ولا تباغضوا”.
ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم البغضاء قائلا: “وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، حَالِقَةُ الدِّينِ لاَ حَالِقَةَ الشَّعْرِ”.
وحرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء في مثل قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (سورة المائدة، الآية 91). وامتن على عباده المؤمنين بالتأليف بين قلوبهم قائلا: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا (سورة آل عمران، الآية 103). ولتحقيق هذا المقصد العظيم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي بالنميمة والتفريق بين الأحبة في قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا أنبئكم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله قال المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت” . وأمر الله عز وجل بالإصلاح بين الناس في قوله عز وجل: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (سورة النساء، الآية 114)، وقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ (سورة الأنفال، الآية 1)، وقال صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة”. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة” .
والحسد من طباع البشر المتجذرة إذ الإنسان يكره أن يفوقه أحد في شيء من الفضائل. والناس في الحسد أقسام فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط، من غير نقل إلى نفسه. وهذا الحسد كله مذموم منهي عنه.
والذي تسبب لإبليس في لعنة الله عز وجل حسده لآدم عليه السلام لما رآه قد فاق الملائكة حيث خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرجه منها. ويروى عن ابن عمر أن إبليس قال لنوح: اثنان أهلك بهما بني آدم الحسد، وبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما، والحرص، أبيح آدم الجنة كلها فأصبت حاجتي منه بالحرص) .
وقد وصف الله عز وجل اليهود بالحسد في مواضع من كتابه العزيز كقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ (سورة البقرة، الآية 109)، وقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (سورة النساء، الآية 54).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب” . وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم. ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد”. وعن ضمرة بن ثعلبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا” .
وقسم آخر من الحساد لا يعمل بمقتضى حسده ولا يبغي على المحسود بقول ولا بفعل، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ويتمنى أن يكون مثله. فإن كانت الفضائل دنيوية فلا خير في ذلك كما قال الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ (سورة القصص، الآية 79). وإن كانت من الفضائل الممتدة للآخرة فحسن. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار” . وهذا يسمى الغبطة.
وقسم آخر إذا وجد في نفسه الحسد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإبداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبته، وأن يكون المسلم خيرا منه وأفضل. وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
البغي والهرج
البغي: مجاوزة الحد والظلم والتعدي. و“الظلم ظلمات يوم القيامة” . والهرج: الفتنة والاختلاط والقتل وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (سورة البقرة، الآية 191)، وأصل الهرج الكثرة في الشيء والاتساع.
إذن هو أشر ثم تكاثر ثم تباغض ثم بغي ثم هرج. هذا هو التطور الطبيعي للدوابية البشرية المتنعمة في الدنيا الفرحة بها المنقطعة عن الموت وعن ذكر هادم اللذات وعن لقاء المولى عز وجل. لا إله إلا هو.
الطب النبوي يصف الداء
صادقٌ الوصف النبوي للأمة المسلمة التي نعاصرها حين قال صلى الله عليه وسلم: “”يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا “. قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: “أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ” . قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: “حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”” .
فما نراه من تكالب الأمم علينا، ونهشها لأطراف الأمة في بورما وأمثالها، وعضها على أبناء الأمة بأنيابها، الحكام من بني جلدتنا، وجبرها المسلمين للميل عن الملة السمحاء بالسموم التي تحقنها بواسطة المثقفين المغربين من تلامذة المستعمر، ما هذه المظاهر إلا أعراض الغثائية، وهي مرض الطفوح والتفرق وخفة الوزن. وهي صفات ما يضيع ويذهب غيرَ معتَد به. أي لا قيمة له ولا أثر) .
الوهن هو العامل الرئيسي لهذا المرض وفقاً لتشخيص الطبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن سمات هذا المرض هو تعطيل قوة الأمة، بغض النظر عن كثرة أعدادهم التي تجاوزت المليار. وتسبب في إزالة قوة الردع عنها بإزالة الهيبة من أعدائها، بحيث لا يحترمونهم إلا قليلاً، ولا يوجد لديهم سوى بقرة تنتج اللبن التي يستفيدون منها، ومنجم واسع يستخرجون منه المعادن، وآبار قريبة يستخدمون وقودها للتدفئة، وأرض خصبة يأكلون من محاصيلها، وجيش احتياطي يجندونه لمعاركهم.
ومع ذلك، هذا المرض لا يؤثر إلا على أولئك الذين يمتلكون أجسادًا مستعدة لاحتضانه، إذ يصيب فقط الأجسام المليئة بجرثومة حب الدنيا، والتي تفتقد المضادات الحيوية القاتلة لهذا الحب، وتفتقد المضادات لحب الآخرة وشغف اللقاء مع الله عز وجل.
من بين وجوه الإعجاز النبوي المحمدي هو الإعلان عن أن الأمة في طريقها لأن تصبح ضعيفة أمام أعدائها. في هذا البيان، يتم التعبير عن قوة خفية من خلال استخدام كلمة "يوشك". وإحدى مظاهر هذه القوة هو مقاومة الأمة للهجوم الذي تتعرض له من أعدائها. وفي صفوف المقاومة، يوجد فصيل يشتعل بالحماسة ويواجه مرض الضعف، وهذا الفصيل يعتبر من بين الجنود الذين تناولوا دواء الموت الناهض لحب الدنيا وهم فصيل الحركة الإسلامية المقاتلة.
غير أن المرض مرض الوهن كائن في الأمة لا محالة وتشهد بذلك الملاحظة التي لا تحتاج إلى مجهر، ملاحظة تزيل الشك لمن كان يرتاب في الحديث النبوي القائل: “سيصيب أمتي داء الأمم”. وأن هذا الداء يدب دبيب النمل شيئا فشيئا حتى يعطل مقدوراتها، ويعيق حركاتها. قال صلى الله عليه وسلم: “دب إليكم داء الأمم قبلكم”.
وجود حب الدنيا لديه أصناف متنوعة تشبه تنوع فيروسات الأنفلونزا، يمكن أن يكون سلبيًا مثل الاحتراق والشر، أو ذات طابع ذاتي مثل التكاثر والتنافس والتجذب والرغبة في الراحة والنعيم، أو اجتماعيًا مثل المنافسة والحسد، أو قلبيًا مثل الكراهية.
وتنتشر هذه الميكروبات المختلفة في شرايين الأمة حتى يظهر ذلك على بشرتها وتفقد جمالها وهيبتها. عندما يتمكن المرض من الجسم، يظهر مرض أكثر خطورة بل سرطان الظلم. بدأ هذا السرطان للأسف في الأمة من الطبقة الحاكمة الظالمة التي قتلت عمارًا رضي الله عنه. تجاوزت حكومات الغدر وظلمت الأمة وعدت الحدود، وخلقت الظروف للتنافس على الحياة الدنيا، وقدمت نموذجًا في ذلك من خلال التكاثر والتجادل والكراهية المتبادلة. حتى انتشرت العدوى إلى أطراف الأمة، مما أدى إلى الفوضى والقتل والصراع والتعصب الجاهلي وسفك الدماء في أوقات مختلفة ومتواصلة في تاريخ الأمة التي عافاها الله.
ومن سمات هذا السرطان هو أنه يقوض العدل والشورى والإحسان، وينشر الاختلافات، ويعزّز القهر والجبر، بل إنه يصيب الأمة بجنون قاتل وصفه النبي بالهرج.
الصيدلية النبوية
الطبيب النبيه الشاطر الخبير هو الذي يقضي على الداء بعد أن يقضي على أسبابه، وهو الذي يصف الدواء ويلزم المريض بتناوله في الأوقات الصالحة وبالأشكال المناسبة، ويحضه على ملازمة الحمية، وممارسة الرياضة أو الترويض.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: البطَر خِفة تعتري الإنسان إذا طرأت عليه نعمة. قال علماء اللغة: “خفة”. والأشَر مثل البَطَر زهوٌ فارغ. والتكاثر والتناجش في الدنيا مِثْلان، والتباغض والتحاسد صنوان. والبغي هو الهيكل المحلول المنقوض للأمة الغثاء، يلفها بسياط العض والجبر بينما يلفَعُها من داخلٍ البَطرُ وأخوهُ، والتّكاثر وحَمُوه، والتباغض وقرينه. وإن محاولة العلاج بالإصلاحات السياسية وحدها لَكَمَنْ يُبَيِّض واجهة مرضوضة منقوضة) .
فالعلاج يلزم أن يكون عميقا في القلوب، كعمق داء الوهن فيها، فلا دواء لأدواء الأمم التي سرت فينا منذ تدحرجنا عن الجبل النبوي الراشد الشامخ إلى وهدة القصعة إلا بالعقار النبوي: “وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ”، وحمية “”إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ههنا! التقوى ههنا! التقوى ههنا!” وأشار إلى صدره. “بحسب امرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام؟ دمه وماله وعرضه””
ففي قوله صلى الله عليه وسلم “وكونوا عباد الله إخوانا” التعليل لما تقدم في الحديث النبوي من ترك الظن والتجسس والحسد وأخواتها، وفيه إشارة إلى أنهم بذلك يكونون إخوانا، ويقتضي أيضا الحرص على اكتساب ما يصير المسلمون به إخوانا، وذلك يدخل فيه أداء حقوق المسلم على المسلم من رد السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض وتشييع الجنازة وإجابة الدعوة والابتداء بالسلام عند اللقاء والنصح بالغيب، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر” وفي رواية “تهادوا تحابوا” وفي أخرى “تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة”، وفي الأثر: تصافحوا فإنه يذهب الشحناء وتهادوا)، وقال الحسن: المصافحة تزيد في المودة)، وقال مجاهد: بلغني أنه إذا تراءى المتحابان فضحك أحدهما إلى الآخر وتصافحا تحاتت خطاياهما كما يتحات الورق من الشجر).
وفي ارتباط بقوله صلى الله عليه وسلم: “وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا” يتبين أن الأخوة تحاب في الله، وأن الإيمان حُب، وما في المسلمين من تحاسد وتباغض مرض دواؤه التحابُّ. وإن حب الله ورسوله، والحب في الله، والخلة في الله، والصحبة في الله، تثمر الرفق والشفقة على الخلق أجمعين. لا تمنع الذلةُ على المؤمنين من العزة على الكافرين. وما يحب الله عز وجل إلا من جمع بينهما) .